كورونا وانعكاساتها على الأسرة والمجتمع

قياسي

كورونا وانعكاساتها على الأسرة والمجتمع

استيقظ العالم على أخبار انتشار فيروس كورونا الجديد (COVID-19) من مدينة ووهان الصينية في نهاية عام 2019 م، وعلى عدد من الموتى الذين كان يحصدهم في طريقه وصارت حالة من الاستنفار وبناء مستشفى ضخم مؤقت في نفس المدينة على مساحة 25 ألف متر مربع بسعة 1000 سرير في غضون ثمانية أيام.

في الأشهر الأولى لم يعره الكثير من الناس وكذلك بعض الدول الاهتمام الكافي وكان التهاون سيد الموقف ولكن أخذ الفيروس ينتشر في دول العالم ويحصد المزيد من الأرواح ليشكل خطراً كبيراً ويستدعي اتخاذ الإجراءات والاحترازات اللازمة.

لقد تزامن انتشار جائحة كورونا في وطننا مع وعكة صحية ألمت بي والحاجة إلى إجراء عملية جراحية قبل أسابيع من انتشاره تلتها الحاجة إلى فترة عزلة منزلية وراحة، واستمرت فترة العلاج والراحة إلى بداية رفع الحظر والعودة تدريجيا للحياة الطبيعية بحذر بعد مضي تقريبا ثلاثة أشهر. ولذلك كان العزل شبه طبيعي بالنسبة لي ولم أتأثر كثيرا نظرا للحاجة الماسة إلى العزلة والهدوء وعدم الاختلاط مع الآخرين. وقد تم التكيف مع هذه الفترة مع الأسرة التي كانت خير داعم ومساند لتخفيف الآلام وتقديم سبل الراحة في هذه الظروف العصيبة من الجهتين، فلها خالص شكري وتقديري.

إنه فيروس صغير وشغل العالم بأسره وأثّر على اقتصاد الدول وأوقف الكثير من الأنشطة والبرامج والتعليم ومختلف التجمعات في دول العالم بما فيها دور العبادة. لقد شلّ حركة الطيران والتنقلات بين البلدان وكبّدها الخسائر الفادحة، و شكّل رعبا كبيرا وأطلقت عليه منظمة الصحة العالمية ”جائحة“ بعد تردد وانتظار طويل. 

لقد كان لحكومتنا الرشيدة بمختلف جهاتها دور بارز في التعاطي مع هذه الأزمة وكان لهذه الجائحة انعكاسات إيجابية وسلبية على الأسرة والمجتمع في جوانب عدة سيتم تسليط الضوء على بعضها. 

ولله الحمد كانت حكومتنا على وعي تام وسبّاقة بمبادراتها في إيقاف العديد من الفعاليات والممارسات في وقت مبكر، واتخذت الاجراءات والاحترازات اللازمة بتعيين اللجان من مختلف الجهات الحكومية وعلى رأسهم وزارة الصحة لاحتواء هذا الفايروس وشرعت في نشر الوعي وفرضت الإجراءات الصارمة مع الغرامات تحت شعار ”كلنا مسؤول“ للحد من عمليات الاستهتار والتهاون لدى بعض المواطنين والمقيمين. كما تم فرض حظر التجول والحجر على بعض المناطق والأحياء التي انتشر فيها الفايروس بشكل كبير، وكذلك اتخاذ زمام المبادرة بالفحص لكشف الحالات مبكرا ليسهل علاجها قبل أن تتأزم وقد أسهم ذلك في عدم تجاوز نسبة الوفيات 0.9%  من الإصابات (حتى تاريخه) مقارنة ببعض الدول العظمى التي تصل إلى 14%. كما خصصت ميزانية تلبي احتياجات وزارة الصحة لتوفير كل ماتحتاجه من أجهزة ومستلزمات للمحافظة على سلامة وصحة المواطنين والمقيمين. واقعا كلنا مدينون لأحبتنا في القطاع الصحي الذين يقفون في الصف الأول مضحين بأنفسهم من أجلنا ومن أجل الوطن، ومهما قدمنا من كلمات الشكر والثناء لن تفيهم ولو بشيء يسير من حقهم، وعلى كل فرد أن يستشعر المسؤولية ويهتم بنفسه ويقيها من هذا الفايروس بعدم مغادرة منزله إلا للضرورة القصوى، وإن فعل ذلك عليه أن يلتزم بكافة الاحترازات من التباعد الآمن بمسافة متر ونصف وأكثر وتعقيم اليدين ولبس الكمامة. وعلينا أن نقدر وقفتهم، شكر الله سعيهم وأثابهم على جهودهم، ونراعي ظروف الكثير منهم المنعزلين عن أسرهم وأطفالهم لفترة طويلة من أجل سلامتنا ونحن نرفل بنعمة التواجد مع أسرنا.

فمن انعكاساته على الصعيد الأسري وجد أفراد الأسرة أنفسهم أمام بعضهم البعض لساعات طويلة لم يعتادوا عليها بسبب الحظر والعزل المنزلي. ربما كان ذلك تحديا للكثير منهم إلا أنه لابد من التكيف والتأقلم مع الوضع والجلوس معا لوضع برامج وأهداف للجميع لاستثمار الوقت الطويل بماهو مفيد ويعود بالمصلحة على الجميع بتنمية المواهب والهوايات وتحقيق الأهداف والطموحات التي كان الكثير يتذرع بعدم وجود الوقت الكافي لتحقيقها. لاشك بأن الجلوس لفترة طويلة بلا عمل هادف يخلق بيئة مملة وينعكس سلبا على الحالة الصحية والنفسية للإنسان وهذا ماجعل البعض يستغل هذه الفترة بوضع أهداف سامية لتنمية مواهبه وهواياته مع أسرته، والانخراط في دورات تدريبية، وقراءة الكتب، والكتابة والتأليف، وغيره من البرامج الدينية والثقافية والفكرية والترفيهية. 

ومن الايجابيات مراجعة بعض الأزواج أنفسهم وحساباتهم للعلاقات المتوترة والخلافات  بينهم لفتح صفحة جديدة عندما جلسوا معا وأدركوا بأن الحياة لاتستحق الخلاف والتباعد والتنافر والمكابرة والعناد وتشتيت شمل الأسرة وهدم العلاقات التي عادة يكون ضحيتها الأبناء. ومن الايجابيات الاعتماد على النفس أكثر والمبادرة في تعلم أشياء جديدة والإبداع والابتكار. فعلى سبيل المثال مع اغلاق صالونات الحلاقة اضطر الكثير لتعلم الحلاقة من ذكور وإناث وتدبير أمورهم، وكذلك مع إغلاق المطاعم شارك أفراد الأسرة في الإبداع في الطبخ بمختلف الأطباق والتي قد تكون دافعا للكثير من الأسر للاستمرار والتقليل من أكل المطاعم لما في من ايجابيات صحية واقتصادية. كما استغل البعض تهاوي وأسطح المنازل لتحويلها لحدائق وجلسات عائلية بطرق إبداعية لتغيير الجو والخروج من حالات الكبت والملل داخل المنزل. 

وفي الأسابيع الأولى من الحظر وتوقف الدراسة في الفصل الثاني كانت فرصة أمام المؤسسات التعليمية لتفعيل منصات التعليم عن بُعد والشعور بأهميتها مما جعل الكثير من الطلاب الدخول عليها كتجربة جديدة يمكن الاستفادة منها وتفعيلها بشكل أكبر مستقبلا.

ومن الجهة المقابلة لاتخلو الساحة من أسر لم تتمكن من التكيف مع الوضع والجلوس في المنزل لفترات طويلة مما جعلها تعيش حالة من التوتر والاكتئاب الذي انعكس على العلاقات الأسرية وقد انتشر في بعض البلدان حالات من العنف الأسري.

ومن الأمور التي تُشعر بالأسى ما عشناه مع الوالدة الغالية – وينطبق على الكثير من  الآباء وكبار السن – تأثرها لفقدها اللقاءات الأسبوعية التي كانت تأنس بها عندما يجتمع من حولها أبناؤها وأحفادها ودائما ما تسأل متى جمعتنا؟ فلا نملك إلا نسألها الدعاء بالتعجيل لكشف هذا الوباء. خلال هذه الفترة تم استخدام تطبيقات ومنصات التواصل (صوت وصورة) لكنها لاتُغني عند كبار السن عن الحضور الجسدي من حولهم وإدخال السرور عليهم.

وعلى الصعيد الاجتماعي انبرت مبادرات مشرفة ورائدة يفخر بها الإنسان لما تحمله بين طياتها من مواقف إنسانية ومن أبرزها التضامن والتكاتف مع المواطنين المتضررين بفقد مصادر دخلهم بسبب الجائحة ومنهم سائقي الباصات و بائعي الخضار المتجولين وغيرهم من الذين يعتمدون على الله وعلى هذه المهن في تأمين لقمة العيش لأبنائهم. وقد كانت لجمعيات البر وقفة إنسانية واستقبلت المتضررين وتسجيلهم حيث تضاعف عدد المستفيدين في بعض المراكز التي حصلت على دعم سخي من المؤمنين ومن الحقوق الشرعية. كما أن بعض العوائل كان لهم نفس الوقفة بحصر جميع الأسر المتضررة والمشاركة الجماعية في دعمها. وأيضا كان هناك دعم من الدولة للكثير من الموظفين في القطاع الخاص لتفادي تسريحهم وخلق مشاكل كبرى. وقد أبى بعض المؤجرون للشقق والمحال إلا أن يكون لهم بصمة إنسانية في التنازل عن جزء من الايجارات مراعاة لظروف المستأجرين. 

وعلى الصعيد الثقافي كانت هناك مبادرات كثيرة من أفراد ومن مجموعات لإثراء الفكر والثقافة بطرح المحاضرات والندوات المتنوعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الاجتماعية.

التباعد الاجتماعي بسبب كورونا لم يمنع الناس من استمرار التواصل فيما بينهم في أفراحهم وأتراحهم. لقد اقتصر عدد المشيعين لأي فقيد لعدد محدود من أقربائه مع الأخذ بالاحترازات اللازمة. ونظرا لعدم وجود مجالس للتعزية فقد تم استغلال وسائل التواصل الاجتماعي بفتح مجالس افتراضية للدخول والتعزية ثم الخروج لفسح المجال للآخرين. وكذلك الحال بالنسبة لمناسبات الأفراح من عقد قران وزواج وغيره. لم تتوقف الحياة ولم تغلق الأبواب لمن أراد المضي قدما والتكيف مع الوضع ولربما ينظر البعض لهذه الجائحة بايجابية للتوفير والترشيد في مناسبات الزواج التي عادة يكون فيها البذخ والإسراف والتبذير، وإذا ما استقرت الأمور وعادت الحياة لطبيعتها يمكنهم عمل حفل مصغر للعائلة و الأحبة ولربما يكون ذلك مشجعا ودافعا بعد الأزمة للبعض للتوجه للزواجات العائلية للتقليل من تكاليف الزواج الباهظة.

وبالرغم مما ذكر من مواقف إنسانية إلا أن الساحة لاتخلو من المواقف اللاإنسانية التي تهاوت فيها القيم والمبادئ والأخلاق. فبسبب التهاون وعدم الاستعداد تفاجأت بعض الدول بارتفاع مباغت لعدد حالات الإصابة الحرجة التي لم تستوعبها المستشفيات والمراكز الصحية لعدم وجود الأسرة وأجهزة التنفس الكافية مما أدى إلى تخصيص الأولويات والتضحية بكبار السن بنقل الأجهزة عنهم ووضعها على الأصغر سنا حتى وإن كان حضورهم متأخرا إلى المستشفى. ومن المواقف الأخرى التي شاهدناها احتكار بعض السلع من مواد غذائية ومستلزمات طبية والتحكم في أسعارها إلا أن الجهات المعنية كانت لها بالمرصاد للحد من ذلك والارتفاعات المبالغ فيها في الأسعار.

عبدالله عباس الحجي

July 3 2020

‏سٌعدنا بحضور حفل تدشين كتاب ‎#تجاربوآراءفيزمنكورونا والذي كان مبادرة رائدة والتفاتة جميلة من منتدى رؤى الثقافي وعمل جماعي بمشاركة 48 كاتبا من الأحساء وعدد من الرسامين والخطاطين. وقد كان لنا الشرف بالمشاركة بمقالة بعنوان (كورونا وانعكاساتها على الأسرة والمجتمع)

‎#كورونا