الشيخ النراقي مثال للأخلاق الفاضلة

قياسي

الشيخ النراقي مثال للأخلاق الفاضلة

عندما ألّف الشيخ محمد مهدي النراقي  كتابه المشهور (جامع السعادات) في الأخلاق، بعث عددا من النسخ إلى علماء النجف ومنهم السيد محمد مهدي بحر العلوم. وبعد مدة ذهب الشيخ النراقي إلى النجف الأشرف فجاء علماء النجف لمقابلته ماعدا السيد بحر العلوم الذي كان له وزنه ومكانته، افتقده الشيخ النراقي ولكنه التمس له العذر بأنه قد يكون مريضا أو غيره وقرر أن يزوره بنفسه.

ذهب الشيخ النراقي لزيارة السيد ولكن استقبال السيد له كان فاترا ولم يعتن به. وبعد أيام قام الشيخ النراقي بزيارة السيد مرة أخرى ولم يتغير استقباله له عن المرة الأولى بعدم الاعتناء. ولكن الشيخ كرر الزيارة مرة ثالثة وعندما علم السيد بوجوده عند الباب، قام بنفسه حافياً واحتضن الشيخ النراقي بحرارة وبالغ في احترامه. وعندما سأله عن حاله قال: لقد ألّفتَ كتاباً حول الأخلاق وتزكية النفس، وبعثتَ بنسخة منه إليَّ، وأنا قرأته من أوله إلى آخره بدقة، إنه كتابٌ رائع في الأخلاق ونادر في تربية الذات. أما السبب في أنني لم أحضر للقائك، وعندما أتيتني لم أُعِرْ لك أهمية، لأجل أن أختبر مدى التزامك بما كتبته في الأخلاق، وضبط النفس والصبر والحلم وكظم الغيظ!.. كنت أقصد من تصرفي معك كيف تكبح هواك، وتسيطر على غضبك!.. وهل أنت من الذين يكتبون ما لا يعملون، ويقولون ما لا يفعلون؟.. ولكن ثبت أنك لست منهم وقد نلتَ في الأخلاق وتزكية النفس درجة عاليـة، فأنت بنفسك كتاب أخلاق تَهدي الآخرين بأخلاقك وليس بكتابك فحسب.

لم يكن اختبارا سهلا ولكن الشيخ النراقي اجتازه بجدارة وكان مجسدا لكل ماكتب عن الأخلاق ولم يكن متصنعا لها. لقد نجح بحسن ظنه بالسيد والتمس له الأعذار منذ اللقاء الأول الذي لم يحضره، وكذلك في الزيارات التي قام بها إلى بيته ولم يعتن به ويستقبله بالحفاوة التي تليق به ولكنه كان صابرا متواضعا حليما كاظما لغيضه متحكما في أعصابه.

الشيخ النراقي ماهو إلا واحد من العديد من النماذج الأخلاقية التي سطرها التاريخ لرجال الدين وغيرهم. وفي الجانب المقابل لاتخلو الساحة مِمّن بلغ مرتبة ومكانة رفيعة ولكنه خسرها بسبب سوء في خلقه واتصافه بأحد الصفات السيئة كالحسد والغرور والأنانية والغيبة والتكبر والعجب، والاستنقاص من قدر الآخرين، والسخرية منهم، وعدم إخلاص عمله لله تعالى. إن النفس لأمارة بالسوء لمن يفسح لها المجال وتحتاج للمراقبة والمحاسبة، والاختبار بين الفينة والأخرى… ورد عن السيد دستغيب في كتابه (القلب السليم): “لو وُجد طالب علم يتصدى لتدريس العلوم الدينية فعليه أن يختبر نفسه هل أن مايقوم به عبادة وإطاعة لأمر الله أو أنه لإبراز نفسه وكمال ترويحها والتظاهر وزيادة الأتباع والأنصار. فلو أنه شعر بالألم والانكسار والتأثر عندما يقل أتباعه أو ينصرفون إلى شخص آخر ويصغون لغيره ويمدحونه فعليه أن يراجع نفسه ونيته والدافع لما يقوم به.”

البعض يكتبون ويتحدثون مجاملة، أو إرضاء لأطراف معينة، أو لمصالح شخصية، أو  أنهم يتخذون ذلك مصدر رزق لكسب المادة ولايهمهم إن كان فعلهم موافقا لقولهم أم لا.. الجانب النظري سهل بأن نكتب ونتكلم ولكن تكمن الصعوبة عندما نكون في مجال التطبيق… فهل نطبق مانتعلمه وما نكتبه ونقوله عندما نكون في ساحة العمل وتواجهنا بعض المواقف والتحديات؟ البعض قد يتخذ موقفا سلبيا منذ اللحظات الأولى، ولو كان مكان الشيخ النراقي لم يحسن الظن ولم يبحث عن أعذار للسيد، ولم يفكر في زيارته. ولو زار السيد ولم يعتن به من المرة الأولى لاعتبرها إهانة له وغضب وخرج من عنده ولم يفكر في زيارته مرة أخرى. 

نستلهم من قصة الشيخ النراقي دروساً قيمةً في جملة من الأخلاق التي سطرها في كتابه جامع السعادات الذي يُعد من أبرز وأهم الكتب في الأخلاق. الأخلاق ليست دروسا نظرية نتعلمها ونتحدث عنها أو نكتب عنها ونتغنى بها بل نحتاج أن نهذب أنفسنا، ونطبقها في حياتنا العملية ولو تدريجيا للتكامل والسمو. فبالإضافة إلى الأخلاق التي تجسدت في هذه القصة هل نطبق العفو والصفح والتسامح مع من يختلف معنا ويسيء إلينا أم أننا نُصّر على القطيعة والجفاء لو كنا في هذا الموقف؟.. هل نصل من قطعنا؟ .. هل نتواضع لغيرنا أم أننا نتعالى ونتكبر ونُصاب بالعجب عندما ننال شيئا من نعيم الدنيا الزائل؟ .. هل نستر عورة أخ انكشفت أو نساعد و نبادر في نشرها والتشهير به على الملأ؟ هل.. وهل …؟

نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا، ويهدينا للصلاح والتقوى ومن الأخلاق مايرضى.

عبدالله الحجي

٢٠٢٠/٨/٢٦

القصة من نقل آية الله الملا علي الهمداني