أمسكت بالآيباد في الطائرة متوجها للعمل لأكمل موضوع مقال الأسبوع الماضي ولكن تذكرت موقفاً حدث يوم الجمعة في المسجد أبى إلا أن يفرض نفسه ليكون موضوعاً لمقال هذا الأسبوع… وقفة تأمل مع الذات!!
انتهى من صلاته يوم الجمعة والتقى ببعض أصدقائه وسلم عليهم بحرارة وودعهم لكونه عازماً على أداء فريضة الحج، وطلب منهم براءة الذمة، وفي الأثناء أعرض بوجهه عن أحدهم ولم يسلم عليه ولم يطلب منه براءة الذمة. كان ذلك بسبب خلاف شخصي أدى إلى تعكر العلاقة بينهما لعدة سنوات.
ياترى أيهم أولى لطلب العفو وبراءة الذمة قبل التوجه لأداء الحج؟ هل من الشخص الذي علاقتي معه جيدة أم ذلك الذي بيني وبينه خلاف أدى إلى قطع العلاقة بيننا؟
الحج مناسبة عظيمة يقف فيها الحاج متضرعاً منكسراً طالباً العفو والمغفرة من الله عز وجل والله جلت عظمته كريم رحيم لايرده خائباً بل يعفو عنه ويعود كما ولدته أمه… أين نحن من هذا الكرم الإلهي والرحمة الربانية… أنعجز عن العفو والصفح عمن أساء إلينا من خلق الله جل وعلا وقد وعدنا الله بالأجر العظيم وأمرنا بالعفو والصفح عنهم كما نحب أن يعفو عنا. قال تعالى: “فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ” وقال: “وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ”.
سنوات من التشاحن والتخاصم والقطيعة والهجران بين الزوج وزوجه وبين الولد ووالده وبين الأخ وأخيه وبين الصديق وصديقه. لو وقفنا على الأسباب كثير منها بل معظمها لاتستحق أن نخسر علاقات تربطنا بأخوة لنا. وماأعظم تلك النصيحة التي وجهها أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر حين قال:” وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان : إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك !
الإختلاف في وجهات النظر أمر طبيعي لاختلاف الأطباع والأساليب والفكر والثقافات و المعتقدات وفلاتر استقبال الرسائل عند كل منا، وكلنا خطاؤون يصدر منا الإساءة لمن حولنا. بالطبع لا للتعميم (فلو خليت خربت) ويوجد من النماذج مايكون بينها قضية دم ولكن ياسبحان الله تتسع قلوبها وتعفو وتصفح قربة إلى الله تعالى.
السيرة الشريفة والأخلاق المحمدية تنهانا عن الهجران لأكثر من ثلاثة أيام، بل تربينا على ثقافة التسامح والإعتذار من المسيء والعفو من المساء إليه بالمحافظة على عزة وكرامة المعتذر. فقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): “إن شتمك رجل عن يمينك ثم تحَّول إلى يسارك واعتذر إليك فأقبل عُذْرَهُ”. وقال الإمام عليّ (عليه السلام): (أقبل عُذر أخيك، وإن لم يكن له عُذرٌ فالتمس له عُذراً).
البعض يتصور بأن العفو والصفح هو ضعف وذل وهذه نظرة خاطئة بل في العفو العزة والرفعة وسمو الخلق والتاريخ مليء بالكثير من المواقف التي كان للعفو فيها أثر كبير في تغيير أخلاقيات وسلوكيات الطرف المقابل. ورد عن سيد الخلق والمرسلين (صلى الله عليه وآله): “عليكم بالعفو، فان العفو لايزيد العبد إلا عزا، فتعافوا يعزكم الله”.
والمرض المنتشر هو أن يبرئ كل شخص ساحته ويعزو الخطأ إلى الطرف الآخر فيستمر الهجران بينما صاحب الخلق العظيم والنظرة الإيجابية لم يغفل هذا الجانب بالحث على الإقدام والمبادرة فقال (صلى الله عليه وآله): “ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟: العفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، والاحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك”. يالها من دروس عظيمة تستحق الوقوف عندها والتدبر في معانيها لنرفع قبعة التعالى والتفاخر والتكبر والنظر إلى الآخرين من الأعلى فسمو الخلق هو أن لاتنتظر إلى من يصلك لتصله ولا إلى من يحسن إليك فتحسن إليه.
أحيانا يكون الخطأ فادحاً كبيرًا ويتعكر الجو خصوصاً لو ترك لفترة طويلة وهنا يبرز دور المجتمع في الإصلاح بين ذات البين ليسود الحب والألفة والتكامل بين أفراد المجتمع. ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم”. فهنيئا لمن وفق في الإصلاح بين ذات البين، وإني أحتسب هذه الأسطر عند الله لتكون سببا في الإصلاح ولو بين شخصين.
إنها فرصة لمن أراد الحج قبل أن يذهب ويطلب العفو من الله جل وعلا أن يفتش في صحيفته ويبادر ويصل كل من أساء إليه ويطلب منه العفو والصفح والتسامح وبراءة الذمة قربة إلى الله تعالى وخوفاً من عقابه وطمعاً في عطاياه الجزيلة فهذه الدنيا زائلة ولاتستحق من يحمل في صدره غلا وحقدا على أحد. قد نستصعب الأمر وتراودنا الشكوك والظنون بأنه ربما لن يقبل الإعتذار ولن يعفو ولكن لنحسن الظن ونقوم بما يمليه علينا واجبنا والأخلاق المحمدية ونترك الأمر بين يديه ليتحمل وزره فهو من سيخسر شفاعة المصطفى (ص) وورود الحوض عليه، كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): “من اعتذر إليه أخوه المسلم من ذنب قد أتاه فلم يقبل منه لن يرد عليَّ الحوضَ غداً”، وقال: “من لم يقبل العُذر من مُتنصِّلٍ صادقاً كان أو كاذباً لم ينل شفاعتي”.
قال تعالى:: “رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا”
عبدالله الحجي
٢٠١٥/٩/١٥