استشعار الضيافة الإلهية وفلسفة الحج

قياسي
الشيطان والهوى والإفراط في طلب الدنيا والتعلق بها عوامل تجعل من عبادتنا مجرد حركات جسدية جوفاء، ولقلقة لسان لانستشعر الهيبة والخشوع والخضوع أثناء المثول أمام جبار الجبابرة في صلواتنا الخمس اليومية، ونتنافس على من ينهي هذه الدقائق المعدودة في أسرع وقت لنعود وننغمس في ملذات الدنيا وزينتها.

 
وكذلك الحال في مختلف العبادات والتي منها حج بيت الله الحرام. يتهيأ الحاج في كل عام لتعلم أحكام الحج وأهم المسائل المبتلى بها وهو أمر في غاية الأهمية. ولكن كم من الحجاج من يخصص جزءا من وقته ويقف على التعرف على فلسفة الحج وجوانبه المعنوية قبل شد الرحيل لكي يستشعر طعم الحج ولذة المناجاة ومتعة العيش في كنف الضيافة الإلهية ويكمل أعماله متحصلا على أكبر المنافع التي وعد بها رب العالمين؟ بعض الكتب والأحاديث وضحت ماتيسر من أسرار وفلسفة الكثير من المناسك والأعمال ولكن تبقى فلسفة بعض الأعمال غير واضحة فيجب على الحاج التسليم والانقياد والتعبد بها كما ورد عن سيد الخلق والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم بدون تشكيك ولو لم يدرك الحكمة الحقيقية منها.
قبل أن يخرج الحاج من بيته عليه أن يقصد رب البيت وليس البيت وحجارته وأنه سيكون في ضيافة الرحمن منذ خروجه من بيته حتى يعود. فهنيئا لمن استجاب الله دعاءه وتكرم عليه بأن يكون من ضيوفه، وعليه أن يشكر الله ويحمده على هذه النعمة ويستمد العون  منه لأداء المناسك في يسر وسهولة. للضيافة آداب بين بني البشر فكيف بمن يكون في ضيافة الرحمن؟ من أهم الآداب أن يكون الضيف محترما وقورا خلوقا مراعيا حرمة البيت وضيوفه، مطيعا لأوامر صاحب البيت، مجتنبا نواهيه.  قبل النزول في ضيافة الرحمن، حري بالعبد أن يتزود بالتقوى كما أمرنا الله في قوله:”وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ”  وأن يصفي حساباته مع خالقه بأداء مافي ذمته من حقوق وعبادات ويصفي حساباته ويراجع علاقاته مع والديه وزوجه وأبنائه والآخرين ويحرص على طلب براءة الذمة ممن أساء إليهم، وينقي قلبه وجوارحه من الحقد والغل والضغينة والحسد وكل الخصال الذميمة ويتصف بالحلم والصفح والعفو والتسامح والصبر وحسن الظن وغيرها من الخصال الحميدة للتعامل مع ضيوف الرحمن.

ومن فلسفة الحج ما ورد في حديث الإمام السجاد (عليه السلام) مع الشبلي عند التجرد من المخيط والغسل  ولبس الإحرام، فليكن العزم على نزع ثوب المعصية والتجرد من الرياء والنفاق والشبهات والكبرياء والغطرسة والخيلاء، والاغتسال بنور التوبة الخالصة والإيمان، للتخلص من الذنوب والخطايا.  وعند التلبية ليحرص على استشعار عظمة من يناديه بقلبه وهو  ينادي “لبيك اللهم لبيك …” وأنه قد لايكون أهلا للنزول في ضيافة الرحمن فيأتيه النداء”لالبيك ولاسعديك”، وعليه تذكر موقف الإمام السجاد (عليه السلام) الذي كان  يغمى عليه أثناء التلبية خوفا من عدم قبول تلبيته. وكذلك الحال مع باقي المناسك التي يظهر فيها براءته من الشيطان الرجيم وحزبه وذويه وينقطع إلى الله بالتضرع والدعاء حتى يحظى بالجائزة الكبرى في نهاية هذه الضيافة ليعود نقيا من الذنوب كما ولدته أمه.
 
في ضيافة البشر يتهيأ الإنسان ليكون في آجمل هيئة فيلبس أجمل الثياب ويتعطر بأزكى العطور ويستخدم أرقى مساحيق التجميل متباهيا بها، أما في ضيافة الرحمن فالوضع مختلف كليا ولا وجود لمعايير التمايز والتفاضل والتفاخر البشرية بين العربي والأعجمي وبين الغني والفقير وبين الأبيض والأسود. فالكل يظهر بزي واحد يذكره بنهاية مصيره عند الموت ليتحلى بلباس التقوى والطاعة. إن الله جميل يحب الجمال ولطالما دعانا للزينة والجمال كما ورد في قوله جل وعلا:”يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ”. ولكن في الحج يأمرنا الله بالتجرد من كل مظاهر الزينة والعطور والإقبال إليه فقط بالإحرام لتتجلى أعلى مراتب السواسية ولايكون هناك مائز بين البشر غير التقوى كما قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.
 
ماأجملها من أيام يعيشها المرء في ضيافة الله مستشعرا ذلك بقلبه وكل جوارحه في كل خطوة يخطوها منذ أن يخرج من داره حتى يعود. فعليه أن يكون نعم الضيف وأن تكون أهدافه سامية مركزا على الأولويات ولايهتم بصغائر الأمور الدنيوية، بل يكيف نفسه ويوطنها للتعايش مع ضيوف الله بكل تقدير واحترام متحليا بالحلم والصبر وأن لايتوقع أن تسير الأمور كمايريدها هو ومايتوافق مع هواه. فعلى سبيل المثال بسبب الأعداد الكبيرة التي تحتاج إلى جهد كبير للتنظيم قد يحدت تغيير في خطط السير ينتج عنها ربكة في برنامج وخطط قوافل الحج وقد تحدث زلات وتقصير بغير قصد فهنا يظهر الإختبار الحقيقي لينظر الحاج لنفسه هل هو فعلا يعيش في ضيافة الله كما ينبغي أو أنه يخرج من طوره ويشتاط غيضا وغضبا وجدالا ويكون مصداقا لقول الإمام الباقر (عليه السلام): “ماأكثر الضجيج وأقل الحجيج”.
 
٢٠١٤/٩/٢٧
 
 
 

رأي واحد حول “استشعار الضيافة الإلهية وفلسفة الحج

التعليقات مغلقة.