الوقت المهدور

قياسي
نهضة عمرانية، ازدهار صناعي .. تجاري .. سياحي ..
نمو سكاني كثيف .. المباني تلتصق ببعضها .. عدد المركبات في ازدياد رهيب.. ازدحام الشوارع
إشارات ضوئية تبعد إحداها عن الأخرى أمتارا قليلة .. قطارات من السيارات عند كل إشارة

يخرج كل يوم إلى عمله مارا بما شاء الله من الإشارات
يقف عند كل إشارة .. ينظر إلى لونها الأحمر بغضب، تبادله النظرات بابتسامة تتغزل بمحياه، يطأطئ رأسه حياء، يحدق في عقارب ساعته ينبعث من عينيه شرار حارق، تتعثر العقارب في حركتها خوفا من أن يصب عليها غضبه
لون أخضر .. تصم المنبهات الأسماع .. تسارع وتزاحم لتخطي الإشارة لكن دون جدوى .. لابد من الانتظار دورتين أو ثلاث على الأقل .. طابور طويل من السيارات
نفد صبره .. ضاق خلقه .. تعكر مزاجه .. ارتفع ضغطه .. تأفف .. حولق .. استرجع
(تحلطم) بكلمات بينه وبين نفسه إلى متى؟ أين الحل؟ أين المسؤولون؟
همسات لم يتعد صداها ثنايا ضلوع صدره، وحنكي فكه، و صماخ أذنه
استمر على وضعه سنين .. اشمأز الطريق … لم يرق له عمله
واظب على حمل كيس الأدوية في يمينه … حبوب الضغط .. القولون العصبي ..
في ليلة هادئة اشتد حاله، انزوى في فراشه، متكمكما بلحافه
اهتز جواله , سلم عليه أحد زملائه، طلب منه أن يصطحبه معه إلى العمل لتعطل سيارته
رحب به أجمل ترحيب .. توجه لاصطحابه في الصباح الباكر
ركب زميله السيارة يحمل في يده حقيبة سوداء يضمها إلى جانبه

الإشارة الأولى .. الثانية .. الثالثة .. انتابته حالة الاشمئزاز والتأفف والتضجر
سمع صديقه همساته ، لاحظ تغير أحواله .. مال بجسده ، استند إلى الباب، استقبله بوجه تملأه ابتسامة هادئة
لم يتمالك نفسه .. انفجر ضاحكا، ضرب كفا على كف
ناداه بصوت خافت هون عليك، وسع صدرك، طول بالك، راع صحتك
غدا تتحسن الأوضاع … غدا تُنشأ الكباري والأنفاق.. غدا ترى الشوارع الواسعة .. غدا ترى الطرق الدائرية السريعة .. غدا ترى سبل المواصلات السريعة : باص، قطار، مترو، (ترام)
مد يده في حقيبته السوداء .. أخرج كتابا
دفعه لزميله هدية مشترطا عليه أن يقرأه من الغلاف إلى الغلاف في سيارته
نظر إليه زميله مستهجنا تصرفه، متهكما بأسئلته من سيقرأه؟ متى؟ كيف؟ أين؟
وصلا إلى جهة العمل، أخذ الكتاب ووضعه تحت (التكاية)
في اليوم التالي توجه إلى عمله بمفرده
في أول إشارة حمراء طال انتظاره.. امتدت يده إلى الكتاب ، تصفحه من الغلاف إلى الغلاف .. لم يسع الوقت ليقرأ شيئا
أزعجته منبهات السيارات مع اللون الأخضر

سنحت له الفرصة لقراءة المقدمة عند الاشارة الثانية .. لمح الفهرس عند الاشارة الثالثة
شرع في قراءة الفصل الأول عند الإشارة الرابعة
انشد للقراءة .. تاه في عالم آخر .. ابتهج سرورا .. ارتسمت البسمات على شفتيه
التهم الصفحة تلو الصفحة
عند آخر إشارة قبل الوصول لمقر عمله عاد للتأفف مرة أخرى .. ماذا جرى؟!
تأفف بشدة لكن لم يكن تأففه كسابقه … تأففه هذه المرة بسبب سرعة تغير لون الإشارة من الأحمر إلى الأخضر
شغفه بالقراءة جعله يخفف من سرعته ليتوقف برهة من الزمن عند كل إشارة لعله يقرأ صفحة كاملة على الأقل
بعد أيام التهم الكتاب المكون من 200 صفحة من الغلاف إلى الغلاف
قبل أن يهوي لفراشه اتصل بزميله وشكره على الهدية القيمة وبشره بأن الكتاب قد غادر السيارة وسكن الدار .
وقبل أن يغلق الخط، سأل زميله على استحياء إن كانت سيارته متعطلة ويرغب باصطحابه معه للعمل.. بشرط أن يحضر معه الحقيبة السوداء!!!