إنها لا تعمى الأبصار..

قياسي
شد انتباهي خبر الحلاق الأردني الكفيف عدنان جرادات الذي يتمتع ببراعة عالية ودقة في حمل المشط والمقص ويتفنن في حلاقة شعر عملائه بالرغم مما تحتاجه هذه المهنة من دقة وبراعة. وقد ذكرني بتقرير مصور عرضته إحدى القنوات الفضائية قبل فترة عن حلاق أمريكي كفيف كان يمارس مهنة الحلاقة منذ أربعة عقود وقد كون له عملاء يطمئنون له.


ومن باب الفضول لمعرفة المزيد من هذه الانجازات التي يقوم بها الفاقدون لنعمة البصر –أثابهم الله- في المجالات المختلفة أجريت بحثا سريعا باستخدام (قوقل) فتبين أنهم لا يقتصرون على المهن السهلة بل انخرطوا في الكثير من المهن التي يقوم بها الانسان السليم الخالي من العاهات والإعاقات. فمنهم العباقرة والمفكرون والمبدعون والأدباء كأمثال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والشاعر بشار بن برد والشاعر اليوناني هوميروس، ومنهم البارعون في الحاسب الآلي، ومنهم من عمل في الخياطة وصيانة الأجهزة الكهربائية وطب الوخز بالأبر، ومنهم من تميز في الرسم، ومنهم من قاد طائرته الخاصة لمسافات طويلة، ومنهم الحافظ لكتاب الله، وغيره من الأمثلة التي يطول المقام بذكرها ويمكن الرجوع إلى موقع شبكة الكفيف العربي وغيره للمزيد من التفاصيل.
فلم تكن الإعاقة أو فقد البصر عائقا أمام هؤلاء بل قهروا إعاقتهم وتحدوها ليحققوا طموحهم وأهدافهم لتكون حياتهم أكثر قيمة ومتعة ولا تأسرهم الأوهام والأحزان وتكبلهم وتقيدهم في قعر سجون ظلماء.. كل ذلك كان بفضل العزيمة والإرادة القوية والثقة بالنفس والاعتماد عليها في تدبير شئونهم لأنهم لا يرغبون في الشعور بالنقص والذل ومساعدة الآخرين لهم فيما يمكنهم القيام به ولو كان فيه مشقة وعناء، وقد مررت بموقف عجيب في إحدى الدول حيث وقف رجل ضرير على الرصيف يضرب الأرض بعصاه يمينا وشمالا ويتحسس بحواسه خلو الطريق من السيارات لكي يعبره بأمان ولم يقترب منه أحد ليساعده، وكثيرة هي المواقف التي نشاهد فيها المعاق الذي فقد رجليه أو يديه يرفض تقديم المساعدة إليه لكي لا يشعر بالنقص والقصور. إن مثل هذه النماذج المشرفة يقف الإنسان إجلالا وإكبارا لها وهي جديرة بأن يقتدي بها الإنسان السليم من العاهات في حياته مستلهما العبر من نضالهم وكفاحهم وشدة بأسهم وتفاؤلهم ولا يخلق لنفسه أعذارا واهية تبرر جلوسه في الدار بدون عمل. ومن النماذج المخيبة للآمال سأذكر موقفين أحدهما عندما كنت في مركز الفيصلية التابع لجمعية البر الخيرية رأيت بعض الأفراد يتقدمون لطلب المساعدة وهم في ريعان شبابهم، يتمتعون بصحة جيدة، أقوياء البنية، مفتولي العضلات، لم يبتلهم الله بإعاقة تمنعهم من مزاولة أي مهنة، وليس لهم عذر إلا أنهم لم ينالوا نصيبهم من التعليم والحصول على شهادة. ومواقف أخرى منتشرة بكثرة مع المتعلمين الحاصلين على شهادات جامعية قد أعيتهم السبل ونفد صبرهم في طَرْق أبواب الشركات والمؤسسات والديوان للحصول على وظائف تتناسب مع مستوياتهم التعليمية وشهاداتهم وتخصصاتهم ولكن دون جدوى وأصبح الكثير منهم يقبعون في دارهم لسنوات عديدة. إن ما يقلق الشعوب في خضم هذه الأزمة المالية الحالية هو الخوف من ارتفاع نسبة البطالة وهو أمر حتمي إذا ما صدقت توقعات بعض المحللين الاقتصاديين في عدم استقرار الأوضاع قبل سنتبن أو ثلاث مما قد يزيد الأمر سوءا بالنسبة لهؤلاء الخريجين في السنوات القادمة. وعليه لابد للخريج من التفكير خارج الصندوق والخروج من هذه البوتقة والتنازل لقبول أي مهنة كريمة تناسبه حتى يأتيه الفرج في الحصول على الوظيفة التي تحقق أحلامه و تلبي طموحه، مقتديا بمثل هذه النماذج المشرفة التي لم توقفها الإعاقة عن ممارسة حياتها الطبيعية لكي لا تكون عالة على أهلها ومجتمعها.. فهي بحق مصداق لقوله جل وعلا: «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ».