ثقافة العطاء

قياسي
٢٠١٥ – ليكن عام عطاء
 
سئل أحد الحكماء، ما الفرق بين من يتلفظ الحب وبين من يعيشه؟
قال الحكيم: سترون الآن، ودعاهم إلى وليِّمة وبدأ بالذين لم تتجاوز كلمة الحب شفاههم ولم ينزلوها بعد إلى قلوبهم، وجلس إلى المائدة و جلسوا بعده. ثم أحضر الحساء وسكبه لهم وأحضر لكل واحد منهم ملعقة بطول متر!  وأشترط عليهم أن يحتسوه بهذه الملعقة العجيبة، وحاولوا جاهدين لكن لم يفلحوا فكل واحد منهم لم يقدر أن يوصل الحساء إلى فيه دون أن يسكبه على الأرض!! وقاموا جائعين في ذلك اليوم.
قال الحكيم: حسنا، والآن أنظروا… ودعا الذين يحملون الحب داخل قلوبهم إلى نفس المائدة فأقبلوا والنور يتلألأ على وجوههم المضيئة، وقدم لهم نفس الملاعق الطويلة! فأخذ كل واحد منهم ملعقته وملأها بالحساء ثم مدها إلى الشخص الذي يقابله، وبذلك شبعوا جميعاً، ثم حمدوا الله.

وقف الحكيم وقال: من يفكرعلى مائدة الحياة أن يشبع نفسه فقط ؛ فسيبقى جائعاً، ومن يفكر أن يشبع أخاه سيشبع الإثنان معاً.

قصة يقال أنها من الأدب التركي جدا معبرة توضح بأن الحياة ليست في الإكتفاء بالأخذ من الآخرين دون العطاء، وليست لمن لاينظر إلا لنفسه ولايهتم بمن حوله ممن هم بحاجة إلى عطائه ولطفه. تتمثل الحياة الحقيقية بالبذل و العطاء لمن حولك ابتداء من القريب إلى البعيد. فبالعطاء يشبع الجائع ويروى الضمآن ويكسى العريان وترسم البسمة على شفاه لطالما سلبتها منها ظروف الحياة وقسوتها، وبالعطاء يتحقق التكاتف والتعاون ليصبح الجميع جسدا واحدا تكنفه المحبة و الألفة، وبالعطاء ترتقي الأمم وتسمو الشعوب وتزدهر الأوطان وتتجسد أعلى مراتب الإنسانية.

العطاء سمة إنسانية يشعر بحلاوتها من يسخر نفسه للعطاء في أي مجال كان. من يعطي للآخرين يتمتع بالفكر الراقي الحضاري والإنسانية الكبيرة وصفاء الروح فكلما أعطى ونظر إلى من حوله بأنه سبب في إدخال البهجة والسرور عليهم، كلما حفزه وشجعه ذلك لتقديم المزيد من العطاء لكي يعيش من حوله بهناء وينعم هو بالرضا الذاتي، ويرتقي بارتقائهم. من يعطي بإخلاص يتحرر من قيود الأنانية وحب الذات ويسعد كلما خلق جوا من البهجة والسعادة في البيئة المحيطة به.

عندما تعطي لاتكن انتقائيا في عطائك لمن تعرف فقط ومن بينك وبينه مصلحة ومنفعة أو تتوقع منه أو من أحد المقربين إليه شيئا من ذلك. عندما تعطي لا تنتظر رد الجميل والجزاء والشكر والثناء. عندما تعطي اعط قربة لوجه الله تعالى ولا تتبع عطاءك بالمن والأذى. عندما تعطي إياك أن ترى الذل والانكسار على وجه من تعطي وتريق ماء وجهه، فالله خلقه وكرمه فاحفظ له كرامته وماء وجهه. قال الإمام الحسن (عليه السلام)

نحن أناس نوالنا خضل *** يرتع فيه الرجاء والأمل
تجود قبل السؤال أنفسنا *** خوفاً على ماء وجه من يسل

جميل أن يعطي الإنسان من يعطيه ويرد له الجميل، وجميل أن يعطي من يعرفه ولكن الأجمل والأعظم أن يعطي من حرمه ومن لم يعرفه. يقول كارل مور في كتابه (١٨ قاعدة للسعادة): اعط بلا مقابل ولاتركز فقط على من تعرفه أو بينك وبينه قرابة أو صداقة. حاول بين الفينة والأخرى أن تدفع مثلا قيمة غسيل السيارة التي خلفك حتى وإن لم تكن تعرفه ليتفاجأ هو بذلك. حينها ستغمره السعادة وينبهر من هذا العمل ولربما يطبق ذلك مع شخص آخر وتستمر الحلقة مع أكثر من واحد.

عندما سمع بعض الأشخاص بذلك قالوا إن ذلك في عالم المثاليات والخيال وغير موجود في هذه الأيام. بينما البعض الآخر استنكروا ذلك وأخذوا يسردوا بعض المواقف المجيدة الأعظم من مجرد دفع قيمة غسيل سيارة لشخص لاتعرفه. نعم الأمثلة كثيرة يطول المقام بذكرها في هذه المقالة ولكن لاغرابة في ذلك وهو خلق سيدنا وقدوتنا صاحب الخلق العظيم حيث يقول (صلى الله عليه وآله): “ألا أدلكم على خير أخلاق الدنيا والأخرة: تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك”. فلا تنتظر مبادرة الآخرين بالتواصل معك والعطاء والعفو بل كن أنت المبادر وابحث عمن لايصلك وصله، وعمن لايعطيك واعطه فذلك سيكون له انعكاسات إيجابية تجعله يشعر بالخجل ويحذو حذوك في الإقتداء بالأخلاق المحمدية.
  
وإذا كنت معطيا فلا تعطي مالا تهواه ولاتحبه نفسك، ولاتعطي الأشياء التالفة والقديمة بدافع التخلص منها فالخير كل الخير في تقديم الأشياء المحببة إلى قلبك والتي تكون في صراع مع نفسك للتبرع بها كما قال الله جل وعلا: ” لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ”. إنك حين تعطي فإن عطاءك لله أكرم الأكرمين فكن على ثقة بالله بأنك لن تفتقر أبدا بسبب عطائك في حب الله وأن الله حتما سيخلف عليك ويعوضك أضعاف ماصرفت فالله كريم لابخل في ساحته. قال تعالى: “وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا”.  وقال تعالى: ” وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ”

مجالات البذل والعطاء وأبوابه مشرعة لينهل منها من أراد سواء كانت مادية أو معنوية كل حسب مقدرته وتخصصه وخبراته عبر الجمعيات والمؤسسات الخيرية وغيرها من الأنشطة الإجتماعية والثقافية. العطاء ليس شرطا بأن يكون كثيرا فكل على حسب مقدرته، فمن لايملك الكثير حري به أن يتدرب ويربي أبنائه على إعطاء القليل حتى وإن كان الكلمة الطيبة والإبتسامة، فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): “الكلمة الطيبة صدقة”، و “تبسمك في وجه أخيك صدقة”.

لقد سطر لنا التاريخ الإسلامي أروع وأنبل الأمثلة في العطاء ملأت صفحات الكتب وأكتفي بالإشارة إلى عطاء أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (عليها السلام) التي بذلت كل ثروتها الطائلة في خدمة الدين ولإعلاء كلمة الله عز وجل. والعطاء ليس مختصا بأمة دون أخرى بل أن المتابع للساحة العالمية يسمع ويرى مالا يصدقه العقل من العطاء السخي بملايين الدولارات ممن لايعتنقون الدين الإسلامي في كثير من الدول لخدمة الفقراء وعلاج الأمراض المستعصية وغيرها في جميع أنحاء العالم. ومنذ عام ٢٠١٢ تم تخصيص يوم عالمي للعطاء (#GivingTuesday) تجمع فيه الملايين من الدولارات من مختلف دول العالم للأعمال الخيرية والذي صادف يوم الثلاثاء ٢ ديسمبر ٢٠١٤، ولايقتصر فيه العطاء على المال فقط بل يشمل الوقت والجهد والهدايا والدعم الإعلامي بشتى صوره لحث وتشجيع الآخرين على المشاركة والعطاء.

ولله الحمد يوجد في وسطنا الاجتماعي أيضا بعض النماذج المشرفة التي نذرت نفسها لتلمس إحتياجات المجتمع والمبادرة بالبذل والعطاء بسخاء لسد أي عوز ورفع حاجة الفقراء والمحتاجين والأيتام، بل أبعد من ذلك بالمساهمة في مشاريع رائدة لرفع مستوى المجتمع والرقي به كتزويج الشباب وتكريم المتفوقين ودعم المسيرة العلمية والأنشطة الثقافية والاجتماعية، وتشجيع المفكرين والمبدعين، وعلاج المرضى والمعاقين وغيره من المشاريع الخيرية الإنسانية. والمجال المعنوي لايقل شأنا أيضا حيث ساهم الكثير من الإخوة والأخوات بالتضحية بأوقاتهم وبذلوا قصارى جهدهم تطوعا لخدمة أبناء مجتمعهم في مختلف المجالات المذكورة أعلاه كل حسب تخصصاته وإمكاناته وقدراته فالمال وحده لايكفي ولابد ممن يتحمل المسؤولية بوقته وخبراته وعلمه ليكمل كل منهما الطرف الآخر.

من المواقف التي أعجبت بها عندما كنت في لندن الإقبال الشديد على التطوع في أي مجال خيري بغض النظر عن العمر وقد شدني التزام بعض المتطوعين ممن كانوا في عمر يتجاوز الستين ولم يمنعهم ذلك من المشاركة ولو بجزء يسير من وقتهم. في مجتمعنا هل ياترى أن عدد المتطوعين وعدد الباذلين ومقدار العطاء يتناسب مع عددنا ومع الحاجة المتمثلة على أرض الواقع من الناحية المادية والمعنوية؟ أم أن كل منا بحاجة – مع بداية العام الميلادي وقرب ذكرى مولد سيد البشرية خير أسوة و قدوة في العطاء – للتحرر من قيود البخل والشح والأنا وحب الذات و وضع أهداف سامية مادية ومعنوية للعطاء بحب وإخلاص في أي مجال يناسبه للرقي بمجتمعنا ووطننا الغالي؟ 

عبدالله الحجي